vendredi 14 novembre 2008

قراءة في كتاب د.ألفة يوسف

جدل المتعة والقانون :

" حيرة مسلمة"

بقلم العادل خضر
تاريخ النشر: 2008-10-24





ا
لئن كانت ردود الفعل الّتي أثارها كتاب ألفة يوسف السّابق " ناقصات عقل ودين " (1 ) متفاوتة الحدّة في صفوف النّساء التّونسيات بمختلف مستوياتهنّ الفكريّة فإنّها تظلّ في جميع الأحوال أرقى بكثير وأشدّ تمسّكا بأخلاقيات الحوار من تلك الرّدود رديئة المستوى الّتي أثارها كتابها الجديد " حيرة مسلمة" ( 2). وهي رداءة قد تخصّصت في نشرها بعض الصّحف التّونسيّة المعروفة بإثارتها لزوابع الفناجين المكسورة. والغريب أنّ الرّدود المنشورة إلى حدّ الآن قد كان كتّابها من "الذّكور" الّذين لم يرقوا في كتاباتهم (المشبوهة) إلى مستوى "بريد القرّاء" وأبجديات القراءة. وإذا استثنينا الشّاذّ النّادر من المقالات الرّصينة، أو ذات الرّوح السّجاليّة المقبولة فإنّ التّلقّي الصّحفي التّونسيّ لكتاب " حيرة مسلمة" قد ظلّ في معظمه من طبقة "خذ هذا على الحساب قبل أن يُقرأ الكتاب".
وفي الواقع يمكن لمن اطّلع على هذا الكتاب أن ينتظر مثل هذا الصنف من الرّدود، ويعتبرها من الأمور المتوقّعة. فمنذ المقدّمة، تنكر المؤلّفة سلطة التّأويل الدّينيّ للنّصّ القرآنيّ الّذي هيمنت عليه منذ بدايات الإسلام مؤسّسات الدّين المختلفة. وهي مؤسّسات كانت ومازالت إلى اليوم متضامنة تاريخيّا مع الهيمنة الذّكريّة. وأسوأ ما في الأمر أنّ الصّوت الّذي ارتفع لنكران سلطة إنتاج المعنى القرآنيّ قد كان صوت امرأة مسلمة "حائرة" لم يكن من المفروض أن يرتفع بما أنّ حقّ الكلام قد شطبته مؤسّسات الدّين التّقليديّة والحديثة بقانون "العورة" منذ أمد مديد.
والحقّ أنّ تمتّع المرأة بهبة الكلام على نحو عموميّ يظلّ حدثا جديدا قد ارتبط بظهور ما يمكن تسميته بنشأة الهويّة الحديثة الملازمة لظهور الإنسان الحديث. فقبل ظهور الإنسان الحديث لم تكن المرأة تمتلك حقّ الكلام ولا حرّيّة التّعبير. وكان ينبغي أن ننتظر بروز صنف خاصّ من النّساء، مبدعات بأقلامهنّ، صنف جديد كلّ الجدّة، لم تعرفه الثّقافة العربيّة إلاّ في أزمنتها الحديثة لمّا جرى توزيع جديد لاقتصاد الكلام. وقد انجرّ عن هذا التّوزيع الجديد في حقّ الكلام تغيّر عميق في مؤسّسات المعنى، خاصّة المعنى الدّينيّ. فلم يعد في الأزمنة الحديثة حكرا على مؤسّسات الدّين التّقليديّة مادام الشّأن الدّيني قد بلغ من الخطورة والتّعقّد حدّا صار يدعو إلى ضرورة العناية الجدّيّة به وعدم إبقائه بأيدي رجال الدّين، والتّفكير فيه بوسائل جديدة وطرق مختلفة وفي مؤسّسات أخرى غير مؤسّسات الدّين.
في نطاق هذا التّوزيع الجديد في اقتصاد الكلام والتّغيّر العميق في مؤسّسات المعنى، ظهرت أسماء معروفة في العالم العربي مثل نوال السّعداوي (مصر) وفاطمة المرنيسي (المغرب)، وأصوات أخرى من جيل جديد نذكر منها رجاء بن سلامة وآمال قرامي وألفة يوسف وغيرهنّ من تونس. ولعلّ القاسم المشترك بين هذه الأسماء جميعا لا يتعلّق بقضيّة حقوق المرأة وحرّيتها فحسب وإنّما اهتمامهنّ على نحو متفاوت بالشّأن الدّيني. وهو اهتمام أضحى ينافس قيمة وعمقا أعمال البعض من "مفكّري الإسلام الجدد" ( 3)، بل هو أشدّ جذريّة منها لأنّه يضرب بحدّة ووضوح رموز هذه المؤسّسات. ولا نحتاج إلى تقديم براهين كثيرة على جذريّة هذه المواقف لدى هذا الجيل (4 )، إذ يكفي أن نقرأ هذين المقطعين من مقدّمة "حيرة مسلمة" وخاتمته حتّى نقف على عمق هذه التّحوّلات الخطابيّة الّذي أصابت القول الدّينيّ الحديث. تقول المؤلّفة في المقدّمة:
"إنّنا نصرّح منذ البدء بأنّ هذه "الحقائق" ليست من الحقيقة في شيء، ونتمسّك بأنّ القرآن وإن يكن كلاما إلهيّا فإنّه قول لغويّ وهو شأن أيّ قول لغويّ قابل لتفاسير شتّى ونؤكّد أنّ كلّ من يدّعي امتلاك المعنى الواحد الحقيقيّ للقرآن إنّما هو إذ يتكلّم باسم الله تعالى، ينتصب في موضع العليم ذي المعرفة المطلقة، فيوهم النّاس أنّه يمتلك الحقيقة الّتي لا يمتلكها إلاّ الله عزّ وجلّ، ويعبد في حقيقة الأمر ذاته وفكره منكرا حدوده البشريّة ونسبيّته الجوهريّة."
وتصرّح في الخاتمة:
" إنّنا نرفع صوتنا عاليا لنقول إنّ الطّبري أو الرّازي أو ابن عاشور - ولعلّنا نضيف لشبابنا عمرو خالد أو يوسف القرضاوي - لا يمتلكون قراءة مثاليّة نهائيّة للقرآن وإنّما هم يمثّلون ذواتهم المحدودة النّسبيّة مثلما نمثّل ذواتنا المحدودة النّسبيّة. وهذه النّسبيّة البشريّة هي الّتي تجعل باب الاجتهاد مفتوحا دائما وهي الّتي تجعل كلّ قراءة للقرآن مغامرة دائمة شوقا إلى المعنى الحقيقيّ الّذي لا يعلمه إلاّ الله تعالى.".

وإذا كان هذا الأنموذج من التّحوّل الخطابيّ غير ممكن تصوّره إلاّ " في نطاق هذا التّوزيع الجديد في اقتصاد الكلام والتّغيّر العميق في مؤسّسات المعنى " فإنّ موضوع "حيرة مسلمة" لا يتنزّل فحسب في دائرة "نزاع التّآويل" رغم طغيان الطّابع السّجالي على الكتاب. فرهان الكتاب الخفيّ هو هذا الجدل العنيف بين المتعة والقانون الّذي ساهمت فيه المؤلّفة بطريقتها الخاصّة. ولا يمكن أن نفهم حقيقة هذا الجدل إلاّ إذا اعتبرنا من ناحية أنّ وظيفة النّصّ في المجال الدّيني هي إنتاج المحرّم المحظور الممنوع l'interdit (بكلّ مقولاته المختلفة من حلال وحرام ومندوب ومكروه) كمحرّمات القرابة أو المحظورات الغذائيّة مثل أكل الميتة ولحم الخنزير... ثمّ اعتبرنا من ناحية أخرى أنّ ما يضمن اشتغال النّصّ على هذا النّحو هو مؤسّسات الدّين الّتي تتّخذ من النّصّ مرجعها الأوّل والأخير. غير أنّ مؤسّسات الدّين في الإسلام على الأقلّ لم تشتغل دائما على النّحو الّذي يخدم النّصّ، وإنّما وظّفت النّصّ ليشتغل لفائدتها فيكون في خدمتها. وها هنا مربط الفرس كما يقال. فالنّصّ القرآنيّ يمثّل كما تؤكّد المؤلّفة "كلاما إلهيّا"، وهو أيضا يمثّل نصّ القانون الّذي يزجّ في فضائه النّساء ويعترف بحقوق الأنثى. فهي مساوية للذّكر ولكنّها دونه في "الحظّ" مادام للذّكر مثل حظّ الأنثيين. ومعنى ذلك أنّ المرأة قد جرى تمثيلها رمزيّا بواسطة الحرف القرآنيّ. غير أنّ الشّريعة، وهي التّأويل الدّينيّ لهذا الحرف، تحاول من خلال ممثّليها، المهيمنين على إنتاج المعنى، إقصاء المرأة لا من نصّ القانون، لأنّ الحرف القرآنيّ لا يمكن نسخه أو محوه، وإنّما من الفضاء العموميّ ببيان أنّ الخطاب القرآنيّ لم يمثّلها، فلم يشملها في خطابه وبخطابه. هذا الإقصاء الّذي جرى بلعبة "نزاع التّآويل" يؤكّد أنّ المؤسّسات الدّينيّة في الإسلام، قد كانت متضامنة تاريخيّا مع الهيمنة الذّكريّة. وهذه الهيمنة هي إرادة قوّة تجسّمت فيما يسمّى بالشّريعة الإسلاميّة الّتي اشتغلت طوال قرون مديدة على نحو أضحى فيه النّصّ القرآني لا ينشئ من المحرّم المحظور الممنوع إلاّ ما يدعّم هذه الهيمنة ويقوّيها. وهي هيمنة قد تجلّت بطرق مختلفة ومتداخلة منها 1) إقصاء الأنثويّ، و2) امتلاك الأنثى، ولكنّها تتضافر جميعا لأمر واحد هو إنشاء دوالّ هذه الهيمنة. وليس لهذه الدّوالّ من مدلول سوى الحدّ من إفراط المتعة الأنثويّة وشطبها.
1 ـ ينبغي أن نذكّر أنّ الأنثويّ لا علاقة له بالبيولوجيّ، وليس مرجعه العضو الجنسيّ، وإنّما هو قوّة لا تعمل إلاّ بتعطيل كلّ القوى المنتجة سواء أكان هذا الإنتاج سلعة من السّلع أم معنى من المعاني، أم خطابا من الخطابات، أم جنسا مادام الجنس إنتاجا للّحم البشريّ. ولمّا كانت كلّ قوّة إنتاج هي قوّة ذكريّة صار الأنثويّ يوصف دائما من منظور القوّة الذّكريّة وبسجلاّتها وألفاظها. فالأنثويّ قوّة غير منتجة، وكلّ ما هو غير منتج ينبغي إقصاؤه من دورة الإنتاج. ومن مظاهر هذا الإقصاء إقصاء الأنثى من التّمتّع بالميراث. وتقدّم المؤلّفة أمثلة كثيرة في هذا الشّأن. منها سكوت الآية عن حظّ الأنثيين: " يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، فَإِنُ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ..." ( النّساء4/11). وقد أثار هذا السّكوت قلق الفقهاء. فابن عربي يقرّر " أنّ الله سبحانه وتعالى لو كان مبيّنا حال البنتين بيانه لحال الواحدة وما فوق البنتين لكان ذلك قاطعا، ولكنّه ساق الأمر مساق الإشكال لتتبيّن درجة العالمين وترتفع منزلة المجتهدين" (أحكام القرآن ج1 ص 336). فالسّكوت في رأي المؤلّفة دعوة إلى إعمال النّظر والفكر والتّأمّل، بينما يقرّر ابن عاشور إقرار المتيقّن بأنّ " قوله للذّكر حظّ الأنثيين جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الّذي يقدّر به حظّ الذّكر، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ الأنثيين حتّى يقدّر به، فعُلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذّكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم" (التّحرير والتّنوير ج4 ص257). وتعلّق المؤلّفة على هذا التّأويل بقولها "فمن أدراه بأنّ المراد تضعيف حظّ الذّكر، ولماذا لا يكون سكوت الله عن حظّ الأنثيين، وهو في الآن نفسه سكوت عن حظّ الذّكر، فتحا ضمنيّا للاجتهاد في مسألة المواريث الّتي لا تعدو أن تكون شأن كلّ التّشريعات وكلّ القوانين متّصلة اتّصالا وثيقا بسياقها التّاريخيّ؟" (ص29). وبغضّ النّظر عن تعليق المؤلّفة فإنّ عبارة " تضعيف حظّ الذّكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم " الواردة في تأويل ابن عاشور، وهو مفسّر ينتمي إلى الأزمنة الحديثة، لكافية في هذا المقام للدّلالة على تضامن المؤسّسة الدّينيّة التّاريخيّ مع الهيمنة الذّكريّة.

فهذه العبارة تعيد بوعي أو دون وعي إنتاج هذا التّضامن التّاريخيّ وتؤكّد استمراره ورسوخه في الخطاب الدّينيّ المعاصر إلى اليوم. وهو ضرب من التّضامن يشتغل بإقصاء الأنثويّ من التّمتّع بالميراث، أو بمتعة المال الموروث باسم القانون. ولمّا كان الأنثويّ تمثّله المرأة أو النّساء بامتياز لأنّهنّ "لا يعملن في المال"، فإنّ تمتّع الأنثى بالمال سيكون خارج مدار العمل والعقل أيضا. ينبغي أن نستحضر هاهنا "باطاي" الّذي يقرن العقل بالعمل (5)، ونستحضر في الآن نفسه تلك المسلّمة الرّهيبة الّتي تشطب متعة الأنثى "النّساء ناقصات عقل ودين" حتّى نفهم منطق هذا التّضامن بين مؤسّسات الدّين والهيمنة الذّكريّة. فالمؤسّسة الدّينيّة تقصي الأنثى باسم نقصان في الدّين، والهيمنة الذّكريّة تقصي الأنثى باسم نقصان في العقل، ولمّا كان العقل يقترن بالعمل أضحى توريث المرأة المال ضربا من الإفراط في المتعة بالمال. وإذا أضفنا إلى كلّ ذلك أنّ الإفراط مبدأ يوجد خارج العقل كما يؤكّد باطاي (Bataille (6 صار توريث الأنثى من منظور الهيمنة الذّكرية ضربا من التّفريط في المال وتبديد للثّروة. فالأنثى من هذا المنظور تمثّل المتعة.
ولكن ما المتعة؟ سبق لنا أن عرّفنا المتعة على هذا النّحو: "المتعة هي قبل كلّ شيء لفظ قانونيّ مرتبط بالتّمتّع بالثّروة والغلّة، ولكن دون إفراط. والمتعة هي هذا الإفراط غير النّافع للثّروة (يقضي على رأس المال) أو الضّارّ بالجسد (يأتي على الصّحّة). وليس القانون سوى هذا الحدّ الّذي يمنع هذا الإفراط، فهو يطمح إلى أن يضع المتعة في حدود النّافع " (7). ولمّا كانت متعة الأنثى تقع خارج مجال الملكيّة والسّيادة والإنتاج والعقل أيضا فإنّ تمثيل الحرف القرآنيّ لهذه المتعة وإدراجها في صلب القانون قد أحرج المسلمين الأوائل كما يؤكّد هذا الخبر الّذي ينقله الطّبري: " كان لا يرث إلاّ الرّجل الّذي قد بلغ، لا يرث الرّجل الصّغير ولا المرأة. فلمّا نزلت آية المواريث في سورة النّساء شقّ ذلك على النّاس وقالوا: يرث الصّغير الّذي لا يعمل في المال ولا يقوم به والمرأة الّتي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرّجل الّذي يعمل في المال. فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السّماء. فانتظروا. فلمّا رأوا أنّه لا يأتي حدث قالوا:لئن تمّ هذا إنّه لواجب ما منه بدّ" (جامع البيان ج4 ص298). بيد أنّ هذا الواجب لم تتقيّد به المؤسّسة الدّينيّة، فقد تعاملت مع القانون بطريقتين متكاملتين: أولاهما أنّها شطبت متعة الأنثى بالمال بقاعدة النّساء ناقصات عقل ودين، وثانيهما أنّها بهذه القاعدة أقصت الأنثى من دورة الإنتاج مؤكّدة بذلك تضامنها مع الهيمنة الذّكريّة الّتي من علامات كينونتها إقصاء الأنثويّ. وما" تضعيف حظّ الذّكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم " سوى دالّ من بين دوالّ تمثّل هذا الإقصاء.
غير أنّ كتاب "حيرة مسلمة" لا يقدّم أمثلة على هذا الإقصاء للأنثى. ففي الفصل الثّاني "الحيرة في الزّواج" تثبت كلّ الحيرات التّسع المؤسّسة لهذا الفصل أنّ من دوالّ الهيمنة الذّكريّة هو امتلاك الأنثى. فكلّ المسائل الّتي أثارتها المؤلّفة مثل "هل المهر ضرورة في الزّواج؟" أو "هل المهر عوض عن بضع المرأة؟" أو "طاعة الزّوج في الفراش" أو "زواج المتعة" أو "النّكاح في الدّبر" أو " الزّواج بصغيرات السّنّ " أو "تعدّد الأزواج؟ تعدّد الزّوجات؟" أو "العدّة " أو "نكاح اليد" أنّ الذّكريّ يتحدّد بما هو غير أنثويّ. وحدّ الذّكريّ بنفي الأنثويّ تترجمها المتعة الذكريّة بما هي امتلاك لا محدود للنّساء رغم أنّ القرآن قد سعى إلى الحدّ منها. فالإفراط في امتلاك المرأة يعني في الآن نفسه أنّ الرّجل ليس بأنثى. فالمتعة الذّكريّة تتحدّد بامتلاك الأنثى أمّا كينونة الذّكر فتتحدّد بإقصاء الأنثويّ وطرده (8). بيد أنّ الأمثلة الّتي حلّلتها المؤلّفة تؤكّد أنّ المتعة الذّكريّة فيها إفراط يخرج عن حدود النّافع. ومن الأمثلة الّتي عرضتها المؤلّفة الدّالة على هذا الإفراط ما جاء في الحيرة السّابعة " تعدّد الأزواج والزّوجات". فإذا كان "إمكان زواج المرأة بأكثر من زوج" من قبيل غير المفكّر فيه عند المؤسّسة الدّينيّة رغم غياب النّصّ الّذي يبطل هذا الإمكان فإنّ إمكان زواج الرّجل بأكثر من زوجة واحدة مباح في الإسلام. وقد بيّنت المؤلّفة دواعي إباحته وفق ما يراه الفقهاء والمفسّرون، وهي لا تخرج عن معان ثلاثة تتكرّر:
1 ـ " زيادة عدد النّساء الصّالحات للزّواج على عدد الرّجال الصّالحين للزّواج لأنّ " النّساء اللائي هنّ أكثر من الرّجال في كلّ أمّة لأنّ الأنوثة في المواليد أكثر من الذّكورة".
2 ـ " فترة الإخصاب عند الرّجل تمتدّ إلى سنّ السّبعين فما فوقها بينما هي تقف عند المرأة إلى سنّ الخمسين". ولمّا كان هدف الزّواج الأساسيّ هو التّناسل وجب "الانتفاع بفترة الإخصاب الزّائدة في الرّجال".
3 ـ بعض الرّجال ميّال للتّعدّد مجبول عليه، فـ"الشّريعة" توسّع عليه بإمكان الزّواج بأكثر من واحدة بدل الالتجاء إلى الزّنى الحرام."

ولا نرى فائدة في مناقشة هذه الدّواعي، فقد ناقشتها المؤلّفة بكثير من الحصافة والعمق. والمهمّ أنّها أمثلة تبيّن بوضوح أنّ هذا الإفراط في المتعة (الذّكريّة) هو ما يطمح القانون إلى الحدّ منه وجعله داخلا في حدود النّافع. فالزّواج بصفة عامّة قد جعل للحدّ من هذه المتعة. بل لم ينظّم القانون، الّذي يمثّل القرآن حرفه وعبارته في السّياق الإسلاميّ، العلاقات الجنسيّة بين الرّجال والنّساء إلاّ حين وضع حدّا لهذه المتعة. ومن أمثلة هذا الحدّ هذه الآية: " وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ " (النّساء، الآية3). وممّا جاء في تفسيرها ما أورده القرطبيّ في الجامع لأحكام القرآن: " وقال الضّحّاك والحسن وغيرهما: إنّ الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أوّل الإسلام من أنّ للرّجل أن يتزوّج من الحرائر ما شاء، فقصرتهنّ الآية على أربع". فعبارة " فقصرتهنّ الآية على أربع " تؤكّد هذا الجدل الحادّ بين عبارة القانون وهذا الإفراط الّذي يميّز كلّ متعة.
الشواهد:
1- يوسف، ألفة: ناقصات عقل ودين، فصول في حديث الرّسول (مقاربة تحليليّة نفسيّة)، دار سحر للنّشر، تونس، الطّبعة الأولى، 2003.
2- يوسف، ألفة: حيرة مسلمة. في الميراث والزّواج والجنسيّة المثليّة، دار سحر للنّشر، الطّبعة الأولى، 2008.
3- نقصد من هذه العبارة عنوان كتاب رشيد بن زين: Benzine, Rachid: (2004) Les nouveaux penseurs de l'islam. Tarik éditions,Maroc الّذي استعرض فيه أعمال بعض المعتنين بالشّأن الدّيني الإسلاميّ، لكنّه لم يحدّد بدقّة من هو "المفكّر؟"، ولماذا اعتبر هؤلاء الأعلام "مفكّرين؟" جددا؟ وعلى أيّ أساس كان فكرهم جديدا؟
4- من الأمثلة البارزة على هذا التّحوّل الخطابيّ نقتصر على ذكر كتابين مهمّين هما: بن سلامة، رجاء: بنيان الفحولة. أبحاث في المذكّر والمؤنّث، دار المعرفة للنّشر، تونس،2006. وكذلك كتاب، قرامي،آمال: الاختلاف في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، المدار الإسلاميّ2007
5- انظر: Bataille, Georges: (1957/2OO1) L'érotisme. Les éditions de Minuit, p188 الّذي يقرن العقل بالعمل: " La raison se lie au travail, elle se lie à l'activité laborieuse, qui est l'expression de ses lois"
6- انظر: Bataille, Georges: L'érotisme, op.cit, p188 الّذي يعرّف الإفراط على هذا النّحو:
" Par définition, l'excès est en dehors de la raison. "
7- خضر، العادل: يحكى أنّ ... مقالات في التّأويل القصصيّ. دار المعرفة للنّشر، تونس 2006، ص109.
8- خضر، العادل: في الصّورة والوجه والكلمة. مقالات ميديولوجيّة. دار ميسكلياني للنّشر والتّوزيع، تونس، 2008، ص87.
العادل خضر: أستاذ جامعي وباحث بكلّية الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة، تونس.

samedi 8 novembre 2008

من إذاعة الزيتونة ما هو استبلاه وتحريض

أعترف لكم أني لا أستمع إلى إذاعة الزيتونة وأعترف لكم أني في الآن نفسه لا أنزعج من وجود أي وسيلة إعلام في بلادي فأنا ضد الرقابة مهما يكن نوعها, ولكن ما أزعجني وقد استمعت إلى أحد برامج هذه الإذاعة "قسرا" إذ وجدت نفسي في سيارة صديق يستمع إليها، ما أزعجني هو التالي: سمعت أحد المتدخّلين يتحدث عن صورة الجنة في القرآن وأشار إلى وجود زاربي مبثوثة وأشار إلى وجود وسائد وأرائك فيها، وعندما تحدّث عن الوسائد قال باللهجة العامية طبعا "يمكن لك أن تضع مخدة بين رجليك أو تحت رأسك أو تحت ظهرك، فكثرة الوسائد تجعلك تشيخ بوضعها أنى شئت",
والحقيقة أن ما أزعجني ليس صورة جنة العوام بعبارة ابن رشد حيث الجنس والخمر والأرائك مما يمكن أن يوجد في الدنيا ولم يزعجني أن كثيرا نسوا أن صورة الجنة في القرآن صورة مثلية بصريح القرآن نفسه الذي يؤكد أن مثل الجنة التي وعد المتقون هي على الشكل المذكور، ولكن ما أزعجني أن يستبله هذا المتكلم المتلقي التونسي فيحدثه بلهجة سمجة مبتذلة عن الوسائد الكثيرة وكيف يمكنه أن يضعها بين رجليه إن شاء أو في أي مكان آخر (والكلام له), أإلى هذه الدرجة نعتبر المتقبل التونسي ذا ذهن بسيط أو إلى هذه الدرجة نريد أن نجعله كذلك؟ أإلى هذه الدرجة فقد البعد الروحاني المجرد أي قيمة وغدا التصور المادي الأكثر ابتذالا وسيلة ل"تحميق" المستمع، هذه واحدة، فما رأيكم بثانية إذ يؤكد شيخ آخر في برنامج موال أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إنه يجوز تحريق ديار من لا يؤمون المساجد لصلاة المغرب، وبغض الطرف عن صحة الحديث (غير موجود في الصحاح) فهل من المنطقي أن نتوجه إلى المستمع "البسيط" لنعطيه مشروعية حرق دار جاره الذي لا يذهب إلى المسجد لأداء صلاة المغرب؟
أنا أومن بحرية التعبير ولكني لا أمتلك إذاعة تسمح لي بنقد هذا الكلام التافه والخطير الذي يقال، لذلك أقتصر على الفايس بوك لأمارس حقي في نقد كل من يستبله أبناء بلادي أو من يحرض نوازعهم العدوانية وأطالب بإذاعات أخرى يسمح لها بأن تبث ما شاءت وتحظى بنفس الإشهار والدعم, أليست هذه هي العدالة؟؟؟